الدراسات والبحوث

دور المخابرات الأمريكية في صناعة الإرهاب

تمهيد

رغم أن الكثير من المسيحيين المتطرفين والمتعصبين ناصبوا العداء للمسلمين منذ نزول الرسالة المحمدية وقاموا بالعديد من المحاولات غير المباشرة لإحداث الفُرقة بين المسلمين لإضعاف قوة تأثير المد الإسلامي،ومحاولات مباشرة تمثلت في شن الحروب الصليبية علي المسلمين،وقد سطر التاريخ كل تلك الوقائع والأحداث على مدى خمسة عشر قرناً من الزمان ..لكن هذا ليس مجال حديثنا الآن،بل رأينا الإشارة إليه لأننا وجدنا أن الصليبيين المتطرفين لم يتوقفوا عن محاولاتهم في تشويه صورة الإسلام وإيذاء المسلمين،ثارة بالنعت وثارة باستخدام  الإسلام  لقضاء مصالحهم وتشويه الرسالة المحمدية ومن هنا نبدأ حديثنا عن آخر حلقات سلسلة العداء المسيحي للإسلام واستخداماته ثم إلصاق التهم به .

فكـرة الأصوليـة

في أواخر السبعينيات وفي وقت كانت فيه الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي بزعامة الشيوعيين والغربي بزعامة الامبريالية الأمريكية في أوج نشاطها وبعد أن أصبح الكاثوليكي المتدين البولندي الأصل ( زيغنيو بريزنسكي ) مستشاراً للأمن القومي في عهد إدارة الرئيس الأمريكي كارتر قدم مشورته اللعينة التي لم يكشف النقاب عنها إلا في السنوات الأخيرة وهي ( إن أقوى سلاح لمواجهة المد الشيوعي هو الأصولية الدينية ) فقدم مشروعاً لإستخدام ( الأصولية المسيحية ) في بولندا،وأنتصر مشروعه وجاءت ثماره بضرب الشيوعية في بولندا وكانت ضربة قاسية للشيوعية من الداخل،فنالت الأصولية الكاثوليكية البولندية مكافأة على ذلك بأن أعتلى الكاثوليكي البولندي ( يوحنا بولس الثاني ) الكرسي الرسولي في الفاتكان،وكانت أول مرة منذ قرون يعتلي فيها كرسي الفاتيكان شخص غير إيطالي،وهذا الإنتصار شجع ( بريزنسكي ) على تقديم مشروعه الثاني لإستخدام ( الأصولية الإسلامية ) لمحاربة السوفييت في أفغانستان ودفع إدارة الرئيس كارتر دون تردد لتبنيه وأوكلت مهمة التخطيط لهذا المشروع إلي وكالة المخابرات المركزية التي رسمت مخططه وحددت ميزانية تمويله وكيفية تمريره بالتضامن والتنسيق مع الخارجية الأمريكية،ثم أوعزت إلي مكاتب محطاتها في الشرق الأوسط والمغرب العربي لتنفيذه، وبموجب ذلك المخطط تم تجنيد عشرات الخطباء والوعاظ من ذوي القدرات واللباقة في الحجة والخطابة في مواقع مختارة من الشرق الأوسط والمغرب العربي،وتوجيههم لدعوة الناس للتمسك بالسنة النبوية والتشدد في تطبيقها تحت شعار ( الصحوة الإسلامية ) ومفهوم الرجوع بالمجتمعات الإسلامية لأصولها الدينية،وبهذه الطريقة ومن على منابر المساجد تم استقطاب آلاف المتطوعين لما أسموه بالجهاد في أفغانستان ضد السوفييت،ووفق التنسيق الدبلوماسي الإستخباراتي الأمريكي الذي نُسجت خيوط مؤامرته مع بعض الأنظمة في المنطقة وخصصت له ميزانية ضخمة أٌنفقت على إمدادات الأسلحة والمساعدات الأخرى لأفغانستان خلال الفترة ما بين سنة 1982م الى سنة 1992م،تولت مكاتب الأجهزة الرسمية في بعض الأنظمة وسفاراتها نيابة عن الأمريكان تقديم التسهيلات والدعم المادي لمن أسموهم بالمتطوعين للسفر إلي أفغانستان لتحقيق حلم خطة بريزنسكي تحت ساتر الجهاد ضد الروس والشيوعية.

 

التنظيمـات الإرهابيـة صناعة أمريكية

في نفس الوقت الذي كانت تعمل فيه الدبلوماسية الأمريكية على تهيئة المناخ السياسي مع بعض الأنظمة في منطقة الشرق الأوسط والمغرب العربي تحت مسمى التعاون الثنائي الدبلوماسي والأمني مثل السعودية والباكستان والجزائر وتونس لضمان حماية توافد المتطوعين إليها وحرية حركتهم في التوجه منها لأفغانستان كانت وكالة الإستخبارات المركزية قد فرغت من تجنيد عدد من العملاء لها في المنطقة من الوعاظ وخطباء المساجد منهم على سبيل المثال : ( عمر عبد الرحمن ـ في مصر، محمد البشتي ـ في ليبيا ، عباس مدني ـ في الجزائر ، أبوبكر الجزائري ـ في السعودية ، عبدالله عزام ـ في الأردن .. الخ ) واندفعوا للمساجد يلقون الخطب والدروس الداعية لتطبيق السنة وفق منظورهم والبرنامج المخطط له،وبشكل ملفت للنظر ظهرت في الوطن العربي نغمة ما يسمي بالصحوة الإسلامية،مظهرها الخارجي هو الغيرة على الإسلام والرجوع به إلى الأصول التي صوروها للناس أن المسلمين ابتعدوا عنها في هذا الزمان.

وقد تبنى هذه النغمة حتى بعض الخطباء والوعاظ غير المعنيين ولا يعلمون خفايا المخطط (يخدمون مخطط العدو بالغباء لا بالتبعية والتجنيد)،وأصبحت واضحة للعيان في الشارع العربي عموما  ما يشبه الموضة بأن تميز أنصار تلك الأفكار بالالتحاء وحف الشوارب ورفع الإزار وارتداء الجلابيب والقبعات البيضاء،وصاروا يلتفون حول بعضهم تحت مسمى ( الأخوة الإسلامية ) ويتداولون فيما بينهم بعض الكتب والرسائل والأشرطة المحتواة دروس وخطب منتقاة لخطباء ووعاظ محددين،وانتقلت العدوى لبعض مؤسسات التعليم الجامعي فدب الحماس خصوصا بين صفوف الشباب وبدأت عملية السفر إلى أفغانستان عن طريق السعودية بحجة أداء مناسك العمرة ،وفي مدينتي جده والمدينة المنورة كانت الترتيبات الأمريكية الباكستانية السعودية جاهزة .. فالدعوة  للسفر إلي أفغانستان كانت ترفع من على منابر مساجد الأراضي المقدسة،والبيوت جاهزة لاستضافة المستقطبين ويشرف عليها سعوديون يتبعون جهاز المباحث السعودي ويعاونهم أفراد آخرين من جنسيات مختلفة يقومون بعمليات الإعاشة وحجز تذاكر السفر من أموال المخابرات الأمريكية المقدمة للمشرفين على تلك المضافات الذين يدعون أنها من أموال التبرعات للجهاد الأفغاني،والسفارة الباكستانية جاهزة هي الأخرى لمنح التأشيرات على جوازات السفر دون الالتفات للمستندات المقدمة من حيث كونها سليمة أو مزوره من عدمه،والسلطات الأمنية في مطاري جده بالسعودية وكاراتشي بالباكستان هي الأخرى مهيأة لاستقبال وتوديع أولئك المتطوعين غاضة الطرف على ما يحوزون عليه من مستندات.وفي الوقت نفسه كانت ترتيبات الاستخبارات الأمريكية بالتعاون مع المخابرات البريطانية جاهزة لاستقبالهم في منطقة بيشاور الباكستانية على الحدود مع أفغانستان حيث أوعز مكتب الاستخبارات المركزية في الشرق الأوسط للناشطين من عملائه الوعاظ وخطباء المساجد الذين وقع عليهم الاختيار وفي مقدمتهم ( عبدالله عزام ) وكلفهم بإعداد المأوي ومراكز الإعاشة تحت مسميات براقة لامعة (مضافات ـ مكاتب إغاثة ) مثل .. مضافة جميل الرحمن ـ مضافة سياف ـ بيت الأنصارـ مكتب الإغاثة السعودي ـ مكتب الإغاثة الكويتي ، بالإضافة إلى المصحات لمعالجة المرضى والجرحى،وتركت المجال مفتوحاً للمتطوعين الراغبين في إنشاء مضافات خاصة بهم تمولها وتشرف عليها المضافات الأم،وأوعزت المخابرات البريطانية لعملائها المحتفظة بهم في بريطانيا من الجماعات الأصولية القديمة مثل الأخوان المسلمين والتحرير الإسلامي وغيرهم،وكذلك بعض الجماعات العلمانية مثل الليبيين المتواجدين بالخارج بالتوجه لأفغانستان لاستقطاب عناصر من هناك وإعادة تنظيم هيكلياتها،وبالتالي أصبحت بيشاور مسرحاً للعمليات الإستخبارية في تكوين ما يسمى بالجماعات الأصولية،فأنشأت الجماعة المصرية مضافة  خاصة بالمصريين،وأنشأ الليبيون مضافتـان في بيشاور الأولى سميت ( مضافة أبوالعز ) والثانية سميت ( بيت الليبيين ) وبمجرد التحاق المتطوع بإحدى تلك المضافات ينسلخ  من اسمه الحقيقي ولقبه العائلي الذي ربما يشده للخلف ويولد فيه الحنين لأسرته ويمنح اسما مستعاراً يشجعه ويدفع به نفسياً لتنفيذ ما يؤمر  به،ومن تلك الأسماء مثلاً ( أبوحفص ـ أبو تمامه ـ المقدام ـ صلاح الدين .. الخ ) ومن تلك المضافات يتم التوجه لمعسكرات التدريب مثل ( معسكر الفاروق ـ معسكر الصديق ـ معسكر سلمان الفارسي ) تلقى فيها المتطوعون دورات تثقيفية في الشريعة والأمن والسياسة وتزوير المستندات،وتدريبات على فنون القتال وحرب العصابات وتدريبات على مختلف أنواع الأسلحة وكيفية صناعة المتفجرات واستخداماتها,ومن تلك المعسكرات يتم التوجه لجبهات القتال في الأراضي الأفغانية .

إن ذلك الخليط من الثقافات والإحتكاك الفكري والحوارات حرك في بعض الأفراد غرائز حب الظهور والزعامة فتكونت الجماعات تحت تسميات مختلفة من أبرزها كان ( تنظيم القاعدة ) الذي أسسه أسامة بن لاذن و ( جماعة الجهاد ) التي أسسها المصري  أيمن الظواهري في معسكر الفاروق،وقد باركت الاستخبارات الأمريكية تشكيل تلك التنظيمات وقامت بدعمها،وزادت في مباركتها عندما تأكدت من أن أتباع تلك التنظيمات تشبعوا بأفكار وعاظهم بأن حكومات الدول العربية التي جاؤا منها هي حكومات كافرة وحكامها طواغيت وأن تغيير الأنظمة القائمة فيها أصبح ضرورة يحتمها ما أسموه بواجب الجهاد ، وعلاوة على المباركة المعنوية لتلك الأفكار والطرح الجديد في ذلك  الوقت رأت الاستخبارات الأمريكية خاصة وأن مصلحتها الأولى قد  تحققت بخروج  السوفييت من أفغانستان أنه لابد من استغلال أولئك المتطوعين المدربين على فنون القتال واستثمارهم في اتجاه آخر.

فأوعزت في عام 1992م للسلطات الباكستانية في إطار التنسيق بينهما أن تقوم بطرد من أطلقوا عليهم تسمية ( العرب الأفغان ) من الأراضي الباكستانية بحجة أن الجهاد انتهى بخروج الشيوعيين من أفغانستان وأن وجودهم لم يعد له ما يبرره،وقامت السلطات الباكستانية بتنفيذ ذلك وطلبت من العرب الأفغان مغادرة أراضيها، فصار الشعور بالإهانة والتشتت عند المتطوعين واضحاً وولد فيهم الرغبة بالإنتقام،وقد كان قادة تلك المعسكرات يعرفون جيداً أنها مشورة أمريكية،وأن الأمريكان يقصدون بها تخفيف أعباء النفقات عن كاهلهم .

وحيث أن الاستخبارات الأمريكية تعلم جيداً أن أغلب أولئك المتطوعين تقطعت بهم السبل وأصبحوا منبوذين وسلطات بلدانهم تترقب عودتهم للقبض عليهم،اتجهت بالتنسيق مع المخابرات البريطانية وعملائها من أجهزة المخابرات في منطقة الشرق الأوسط وبعض الدول الأوربية التي تدور في فلكها للتعامل مع تلك الفئة بأسلوب آخر وهو الإحتضان المشروط بأن أوعزت لهم بالتوجه لتلك الدول للإقامة فيها،وهناك أمّـنت لهم الإقامة والمصاريف الشخصية البسيطة مقابل تنفيذ ما يطلب منهم، وأصبح يتم استخدامهم كأوراق رابحة للضغط بهم على الدول العربية والإسلامية التي جاءوا منها والتي لا تسير في الفلك الأمريكي،واستقرت عناصر تلك التنظيمات في بريطانيا وهولندا وتركيا .. الخ  .

علاوة على أتباع ( أسامــة بن لاذن ) الذين  ذهبوا إلي السودان بالتنسيق  مع ( حســن الترابي ) الذي كان يحلم بتزعم الجماعات الأصولية في العالم وخصصت له المخابرات الأمريكية معسكرات تدريب عناصر تلك التنظيمات في ولاية لوس أنجلوس .. لكن  الخلافات التي دبت بين  أسامــة بن لاذن  ورئيس جهاز المخابرات السعودية الأمير تركي الفيصل بشأن توقف التمويل،وكذلك الخلاف الذي دب بين أسامة بن لاذن وحسن الترابي بشأن زعامة ما يسمى الجبهة الإسلامية العالمية،جعلت السحر ينقلب على الساحر.

أصبحت التنظيمات الأصولية تناصب الولايات المتحدة العداء للإنتقام منها تحت شعارات متعددة،والولايات المتحدة أصبحت تصف تلك التنظيمات بأنها إرهابية،وأصبح هناك تحالفات جديدة  بين أسامة بن لاذن وعمر البشير ضد الترابي،وبين السعوديين والأمريكان ضد أسامة بن لاذن والسودان،ونتج عن ذلك بأن اتهمت أمريكا  تنظيم بن لادن بعمليات تفجير لمواقع أمريكية في منطقة الخبر بالسعودية وسفارتيها في نيروبى ودار السلام وقام الأمريكان بقصف السودان ومعسكرات أسامة بن لاذن في أفغانستان وتشابكت الأمور حتى وصلت الي ما هو عليه الحال حاليا .


#فريق_البحث _الأمني_بالمركز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى